فصل: مطلب خلق النار من الشجر وكيفية أمر اللّه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قالوا إنه عاش مائة وثلاثين سنة لم يسقط له فيها سن هذا، وان القرآن العظيم امتاز عن كلام البشر بما تقدم، وبنظم آياته على نظام السجع المستمر أو النثر من الشعر وبضرب الأمثال وسوق القصص وتكرارها بغير النسق الأول مع إعطاء المعنى كاملا، وهذا مما يعجز عنه البشر وعدم التزامه أسلوبا واحدا في الأداء والبحث فكما تجد في السورة الواحدة عدة أبحاث تجده في الآية الواحدة أيضا، وكما أن كثيره معجز فقليله معجز، فهو في هذه الحيثية لا يتجزأ كالنور فإنه إذا تجزا لا يخرج عن طبيعته كله لأن جزء النور نور وهكذا القرآن جل منزله.
ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 226 من سورة الشعراء نستقصي فيها ما لابد منه في هذا الشأن إن شاء اللّه تعالى، ولما نفى جل جلاله أن يكون نبيه شاعرا وأن يكون كلامه شعرا قال: {إِنْ هُوَ} أي ما الذي علمناه لحضرة رسوله {إِلَّا ذِكْرٌ} من لدنا أنزلناه عليه ليذكر به عبادنا ويعظمهم به {وَقُرْآنٌ} يقرأه عليهم {مُبِينٌ} 69 ظاهر واضح بأنه ليس من قول البشر ويلقم من تصدى لمعارضته الحجر كتاب سماوي لا مثل لمثله، تحدى الخلق كلهم ليأتوا بسورة مثله فعجزوا، وهو مصوغ صوغا إلهيا يباين كلام الإنسان ويخالف ما في الشعر من أصول وأوزان، موضح للحدود والأحكام، ومبين للحلال والحرام صادر عن حضرة الملك العلام القائل {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} الآية 88 من سورة الاسراء الآتية، فأين هو بعد هذا مما يتقوله المتقولون من مضاهاته للشعر المربوط بأوزان لا يتجاوزها، وبحور لا يتعداها، وهو من همزات الشياطين وأقاويل الكافرين ليمدحوا عليه أو ينالوا به شيئا من حطام الدنيا، إذ كان متعارفا بينهم للمدح والذم المبالغ فيهما، هذا وإنما أنزل اللّه جل شأنه هذا القرآن على رسوله صلى اللّه عليه وسلم {لِيُنْذِرَ} بأوامره ونواهيه ويرشد {مَنْ كانَ حَيًّا} قلبه تنجع فيه النذر وتؤثر فيه المواعظ {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} بوجوب العذاب {عَلَى الْكافِرِينَ} 70 الذين لا ينتفعون بالذكرى.
ثم شرع يعدد نعمه على خلقه الذين لا يجدر بهم أن يجحدوا كتابه ورسوله لو كان لهم ألباب فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا} هؤلاء المعارضون لرسولنا {أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعامًا} من الإبل والبقر والغنم وغيرها وخص الأنعام، مع أن غيرها مثلها وأحسن كالخيل والبغال والحمير والبراذين التي لا غنى لهم عنها إذ ذاك، لأنها أكثر أموالهم، ولهذا قال تعالى: {فَهُمْ لَها مالِكُونَ} 71 يتصرفون فيها كيفما شاءوا أو أرادوا.

.مطلب آيات الصفات ونعمة إذلال الحيوانات:

هذا، وقد سبق أن ذكرنا في تفسير الآية 54 من الأعراف والآية 30 من سورة ق المارتين بان آيات الصفات كهذه الآية مما لم يقطع بتفسيرها، إذ أن السلف أبقوها على ظاهرها وأطلقوا معناها عليه، وتأولها بعض الخلف وقال المتكلمون وبعض أهل الرأي أنه جل شأنه له يد لا كالأيدي ورجل لا كالأرجل وهكذا وهو مما طعن فيه أكثر الخلف لشدة تنزيههم الحضرة الإلهية عن مثله، وكل ما هو من شأن البشر، ولهذا فإنهم أولوا اليد بالقوة والنعمة والقدرة تحاشيا عن ذلك، قال تعالى: {وَذَلَّلْناها لَهُمْ} جعلنا هذه الأنعام مسخرة منقادة لخلقنا لتمام الانتفاع بها إذ لو جعلت متوحشة كغيرها من الحيوانات لم يقدروا على ضبطها ولحرموا منافعها وهذا من أكبر نعم اللّه على خلقه، فانك تجد الطفل المميز يقود البعير بخطامه ويتابعه حيث أراد، ولو لا تذليله لعجز عنه الجماعة ولأتلف بضربة من رأسه الطائفة من الناس فله الحمد والشكر على هذا التسخير {فَمِنْها رَكُوبُهُمْ} عليها بسبب تذليلها وحملها الأثقال: {وَمِنْها يَأْكُلُونَ} 72 الرجل يذبح الثور والجمل فيأكل ويبيع ويهدي من لحمه وشحمه، ولو لا تسخير اللّه لما تمكن من ذلك {وَلَهُمْ فِيها} غير الركوب والحمل {مَنافِعُ} كثيرة من أوبارها وأشعارها وصوفها وجلدها لباسا ومن نسلها قنية وتجارة إذ يبيعونها ويشترون بثمنها لوازمهم ويستكثرون بها مما يجب الشكر والحمد لمذللها {وَمَشارِبُ} من حليبها ولبنها وزبدها وسمنها وجبنها ولباها واقطها ومخيضها أكلا وشربا وبيعا وادخارا {أَ فَلا يَشْكُرُونَ} 73 هذا الرب الكريم على إنعامه هذا عليهم، فضلا عن باقي نعمه التي لا تعد ولا تحصى، قال صلى اللّه عليه وسلم اتقوا اللّه لما يغذوكم به.
أي إن لم تتقوه لنعمة الحياة والسمع والبصر وبقية الجوارح والحواس وخوف المرض والفقر والعذاب فاتقوه على الأقل لنعمة الأكل والشرب واللبس التي لولاها لهلكتم، إذ فيها قوامكم فهذه كلها نعم من اللّه تعالى يجب عليكم شكرها فما بالكم تقابلونها بالكفر وتنكرون نعمها {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} من صنع أيديهم من الأحجار والأخشاب وعبدوها {لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} 74 إذا أضربهم أمر من خوف وجدب أو حلّ بهم ضر من مرض وفقر كلا {لا يَسْتَطِيعُونَ} أولئك الأوثان المتخذة {نَصْرَهُمْ} على غيرهم لأنها عاجزة عن نصر نفسها لأنها من صنعهم بدليل قوله واتخذوا {وَهُمْ} هؤلاء الكفرة الراجون من هذه الآلهة المزيفة نصرا ويعبدونها من دون اللّه مع علمهم أنها لا تضر ولا تنفع ولا عن أنفسها شرا تدفع ومع هذا تراهم {لَهُمْ جُنْدٌ} أعوان لأوثانهم وخدم {مُحْضَرُونَ} 75 مهيئون يحمونها ممن يتعدى عليها ويرجون خيرها ويخافون شرها ولا ينظرون لخالقهم ورازقهم وحافظهم فيا سيد الرسل اتركهم الآن واصبر عليهم {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} بانك ساحر أو كاهن أو شاعر وإن كتابك سحر وشعر وكهانة، ووصم ربك بالشريك والولد والصاحب {إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ} لبعضهم ويكنون في قلوبهم من العداء لك والحسد على ما خولك ربك والحرص على إهلاكك {وَما يُعْلِنُونَ} 76 في ذلك كله وتسافههم عليك وعكوفهم على عبادة أصنامهم على مرأى منك، واتهامك بالكذب، وتهديدك بالجلاء والقتل، وغير ذلك مما نحن عالمون به قبل إظهاره لك.
واعلم يا أكمل الرسل أنا مجازوهم على ذلك كله لأنهم بوصمك هذا يكذبون الذي أرسلك ويجحدون آياته.
راجع تفسير الآية 32 من سورة الأنعام في ج 2، ولذلك فإنا نجعل كيدهم في نحرهم وننصرك عليهم وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى على بصير وفيها أيضا وعد وتسلية من اللّه لرسوله ليقشع عنه ما لحقه من هم وحزن من قومه بسبب تقولاتهم هذه وإصرارهم على الكفر والتكذيب ورميهم له بما لا يليق بجنابه وليس في هذه الآيات ما ينم على حزنه نفسه بسبب ما تابه من أذاهم وإهانتهم وإنما على عدم قبولهم الايمان ورفضهم كتاب اللّه وإنكارهم رسالته وجحدهم الإله الواحد لأنها على حد قال تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ} الآية 88 وقوله ولا تدع مع اللّه إلها آخر الآية 89 من سورة القصص الآتية ومن المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لا يظاهر الكافرين ولا يكون من المشركين ولا يدع مع اللّه إلها وان المخاطب فيها على الحقيقة غيره وانما خاطبه بها لإلهاب القلوب وركونها إلى المحبوب وجنوحها عن الأغيار وميلها عن مصاحبة الأشرار ولهذا البحث صلة في تفسير الآيات المذكورة إن شاء اللّه تعالى.

.مطلب تفنيد من كفر القارئ انا بالفتح:

قال بعض المفسرين: من قرأ انا هذه بالفتح فسدت صلاته وإذا اعتقد معناها كفر، وهو قول مبالغ فيه فلو اقتصر على تخطيئه أو غلطة لكان الأمر فيه ما فيه ولكن الكفر أمر عظيم لا يليق أن يجنح إليه عالم ما وجد مخرجا لعدم تكفير المسلم لأنه إذا وجد لمن يصدر عنه قول ظاهره الكفر احتمالا ما، يجب صرفه لهذا الاحتمال إذ لا يجوز تكفير المسلم حتى أن العلماء رحمهم اللّه قالوا إذا وجد قول بعدم التكفير وتسع وتسعون قولا بالتكفير، يصار إلى عدم التكفير، وهنا يمكن حمل الكلام على حذف لام الفعل أي لأنا نعلم، ومثله كثير في القرآن وفي غيره أكثر، وعليه تلبية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحيانا إذ يقول أن الحمد والنعمة لك بفتح الهمزة من أن وقد قرأها الشافعي رضي اللّه عنه بالفتح وأبو حنيفة بالكسر ولكل منهما تعليل وتوجيه لانه إذا قرأتها بالفتح على أنها بدل من قوله: {فَلا يَحْزُنْكَ} بحيث يكون المعنى فلا يحزنك علمنا ما يسرون وما يعلنون ففساده ظاهر لان هذا لا يحزنه بل يسره وفيه ما فيه وهذا المعنى يكون مع كسر إن أيضا إذا جعلتها مفعولة للقول أي كلمة قولهم لأن المصدر يعمل عمل فعله وعليه فيظهر من هذا أنه تعلق الحزن يكون اللّه عالما به وعدم تعلقه بذلك لا يدوران على فتح انا وكسرها وانما يدوران على تقديرك أنت أيها المتفحص وعليك أن تفعل فان فتحت انا قدرت معنى القليل لا معنى البدل لأن فيه الفساد كما علمت، وان كسرتها أي همزه إنا تفصل أيضا بأن تقدر معنى التعليل لا المفعولية وبهذا ننجو من الخطإ والفساد.
وليعلم القائل بالتكفير بان المسلم لا يكفر إلا بجحد ما يجب الإيمان به قال تعالى: {أَ وَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ} منكر البعث وهو أبي بن خلف الذي نزلت فيه الآية حينما أخذ عظما باليا من الأرض وقال يا محمد أترى ربك يحيي هذا بعد ما رمّ؟ فقال «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم».
وانما أغلظ عليه في هذه الجملة لأنه صلى اللّه عليه وسلم لا يغضب لنفسه وانما إذا انتهكت حرمات اللّه أو استهزأ بها كما هنا يغضب ويشتد غضبه ولهذا قال له ما قال وقيل أن القائل العاص ابن وائل وقيل غيره إذ يجوز أن تكون الآية واحدة لأسباب كثيرة وعموم لفظها لا يقيدها بمن نزلت فيه لأن لا عبرة بخصوص السبب فضلا عن أن الإنسان جاء معرفا بأل الجنسية فتشمل الواحد والمتعدد من جنس الإنسان ويجوز أن تكون أل فيه للاستغراق فيراد بها كل فرد من أفراد الإنسان أي أو لم يبصر هذا الساخر {أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ} زهيدة حقيرة وسويناه رجلا كاملا منها {فَإِذا هُوَ} بعد خلقنا له إعطائه القوة والعقل {خَصِيمٌ} لنا بما أنعمنا به عليه من الخلق والرزق {مُبِينٌ} في خصومته معلن لها يجادلنا بالباطل وينكر علينا إعادته كما بدأناه ولا يتفكر في كيفية إنشائه وما كان عليه من الضعف في قواه وجوارحه {وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا} بالعظم البالي وبغتة لرسولنا جاحدا قدرتنا على احيائه كما كان {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} من تلك النطفة اليسيرة وتصييره تدريجا هيكلا عظيما على أحسن صورة وأبلغ خلقة مما هو أعظم وأقرب من إحياء العظم البالي فلان يتعجب في ماهيته وأدوار حياته وإعطائه القوة بعد الضعف والنطق بعد البكم أولى من أن يتعجب من احياء العظم وما إعادته بأهون علينا من بدايته وما بدايته بأهون علينا من إعادته إن كان له حجى يعقل به أو نهى يتدبر به أو لب يتذكر به.
ثم ذكر مقالته القبيحة بقوله الحسن الجليل العظيم {قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 78 أو لا يذكر هذا الحيوان أن الإعادة أهون من الإبداع لأن اللّه خلق الإنسان على غير مثال سابق فبالأحرى أن يعيده على مثل ما خلقه عليه وانه خلقه من التراب وانه مهما بلي ورمم: لا يصير الا ترابا فيخلقه منه كما بدأه قال تعالى: {كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} الآية 28 من الأعراف المارة ثم التفت إلى حبيبه فقال يا أكمل الرسل {قُلْ} لهذا السائل {يُحْيِيهَا} أي العظام البالية وغيرها {الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ} قبل أن تكن شيئا وبعد أن كانت فمن باب أولى فانه يعيدها كما كانت {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 79 ليس خلق الإنسان فقط الذي لا تخفى عليه أجزاؤه المفتتة المتفرقة ولا يعجزه جمعها من البر والبحر وبطون الوحوش والهوام والحيتان والطيور ولا كيفية إعادتها على خلقها لأنه عالم بذلك على التفصيل وهو قادر على ما يعلم وقادر على إعادة كل ذرة لجسدها سواء كان إنسانا أو غيره لا يتعاظمه شيء ولا يعزّ عليه شيء مما تتصوره العقول البتة،- راجع تفسير الآية 53 المارة- واعتقد ولا تستكثر على الإله شيئا أبدا ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 259 من سورة البقرة في ج 3.

.مطلب خلق النار من الشجر وكيفية أمر اللّه:

كيف يتصور وهو الإله القادر الجبار: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نارًا}.
تنتفعون بها منافع جمة لا تحصى {فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ} أيها الناس {تُوقِدُونَ} 80 للتوضئة والطبخ وتليين المعادن وتقويتها وصنعها فالإله الذي يقدر على جمع الماء والنار في الشجر وهما ضدان ألا يقدر على إعادة ما خلقه كما خلقه بلي والعجز من شيمة وصفة المخلوق لا الخالق، واعلم انما ضرب اللّه تعالى المثل بالنار لما كان في علمه أنه ينشأ منها ما لم يكن يعرف قبلا، فقد نشأ منها القوى الكهربائية التي هي أعظم قوة وقف عليها البشر حتى الآن، وهي جامعة بين الأضداد كالحرارة والبرودة، والجمع والتفريق، والحركة والسكون، فهي العامل الوحيد الآن لأكثر لوازم الإنسان والحيوان، وما ندري ما ينشأ عنها بعد، فتفكروا أيها الناس في آلاء اللّه تعالى تفتح أبصاركم وتنور بصائركم لمعرفة مكنونات ربكم في هذه الأرض التي أمر نبيكم بالتماس خباياها وفي عجائب مصنوعاته في السماء التي جعل فيها رزقكم وما وعدكم به.
قال ابن عباس: أراد اللّه تعالى في هذه الشجر شجرتي المرخ والعفار الموجودتين في أرض الحجاز فمن أراد إذكاء النار قطع منها غصنين فيسحق المرخ على العفار فتخرج منها النار وهما خضراوان يقطران الماء، ولهذا تقول العرب في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار أي استكثر منها، هذا خلق اللّه أيها الناس وخلق السموات والأرض أكبر من خلقكم، فالذي يفعل هذه الأشياء إبداعا ألا يقدر على إعادة خلقكم من رميمكم البالي كما بدأكم؟
ثم ذكر مثلا أعظم من الأول فقال {أَ وَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} بما فيهما من جبال وأودية وبحار وأنهار وكواكب وشموس ومناسك وبروج {بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} لأنهم بالنسبة لذلك لا يعدّون شيئا، قل أيها الإنسان قسرا {بَلى} قادر على أكثر من ذلك {وَهُوَ الْخَلَّاقُ} الموجد لأنواع المخلوقات العظيم {الْعَلِيمُ} 81 بكيفية خلقها أولا وإعادتها ثانيا لا يعجزه شيء ولا يحتاج في تكوينها إلى شيء من عقاقير ومحللات ومركبات.
واعلم أيها الكامل {إِنَّما أَمْرُهُ} في الإيجاد {إِذا أَرادَ شَيْئًا} يوجده {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 82 حالا كما أراد لا محالة بين الكاف والنون، وكذلك إذا أراد إعدام شيء أعدمه بقول كن أيضا، لا فرق عنده فيهما، هذا وقد عبر جل تعبيره عن إيجاد الأكوان بقول كن، من غير أن كان منه كاف ونون لسرعة الإيجاد، فكأنه جلّت قدرته يقول كما أنه لا يثقل قول كن عليكم أيها الناس فكذلك لا يثقل عليّ إبداء الخلق وإعادتهم، وهو يمثل لنا لتأثير قدرته تعالى في مراده بالأمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير امتناع وتوقف على شيء، وإذا نظرت إلى قال تعالى: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الآية 40 من سورة النمل الآتية عرفت بعض قدرة ذلك الرب العظيم على كل عظيم بأقل من لفظ كن والظاهر من الآية أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن، وإليه ذهب معظم السلف، وذهب غيرهم إلى أن لا قول أصلا، وقال بعض العلماء إن هناك قولا نفسيا، والأحسن أن تضرب عن هذه الأقوال صفحا لأن شئون اللّه تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام، فلا تشغل نفسك أيها العاقل العارف بمثل هذا الكلام وقل {فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيء} من كل شيء يتصرف به كيفما يشاء ويختار، وقد زيدت الواو والتاء في لفظ ملكوت للمبالغة كما زيدت في جبروت ورحموت في مبالغة الجبر والرحمة وقد أشرنا في تفسير الآية 18 الأعراف إلى ما يتعلق بهذا فراجعه.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 83 أيها الناس بعد الموت كسائر خلقه لا محيد لكم عنه.
أخرج الامام أحمد وأبو داود والنسائي وغير عن معقل بن يسار أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «يس قلب القرآن».
وأخر أبو النصر السنجري في الإبانة وحسنه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «إن في القرآن لسورة تدعى العظيمة عند اللّه ويدعى صاحبها حافظها الشريف عند اللّه تعالى، يشفع صاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس».
وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول صلى اللّه عليه وسلم قال «سورة يس تدعى في التوراة المعمّة تعمّ صاحبها بخير الدنيا والآخرة» أي تدفع وتدعى المدافعة القاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضى له كل حاجة واخرج الخطيب عن أنس مثله وعن معقل بن يسار قال قال صلى اللّه عليه وسلم: «اقرأوا على موتاكم يس أخرجه أبو داود وغيره».
هذا، واللّه أعلم، واستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اهـ.